كتب د. عصام تكروري : ساركوزي بين التوليب التركي والدم الارمني




من يعتقد أنَّ الأوروبيين قوم ٌ ناكرو الجميل سيجد نفسه مضطراً لإعادة النظر في قناعته تلك بعد أن تُقر هولندا ـ في الخامس من نيسان 2012 ـ بأنَّ منشأ التوليب الذي تصدر منه سنويا أكثر من  مليار زهرة هو مدينة أنطاليا التركية و أنَّه وصل إلى هولندا قبل 150 عاماً لينتشر منها إلى كل عشاق الأرض . الاعتراف الهولندي ـ في حال حدوثه طبعاًـ سيضفي على هذه الزهرة قيمة جديدة إذ إضافة لكونها رمزا للخصب و للحب ستصبح رمزاً للعرفان بالجميل و هو رمزٌ لم تحمله أية زهرة من قبل.

في الحقيقة مجرد الإعلان عن النية بهكذا اعتراف أثار موجة فرح عارمة بين الأتراك من منطلق أن اسم بلادهم سيرتبط باسم الزهرة الأكثر شهرة في العالم ، و لكن نية الاعتراف بالفضل التركي على اقتصاد دولة عضو في الإتحاد الأوربي تلقى صفعتين تعكسان الدونية المقززة التي بات يتعامل بها الأوروبيون مع الشعب التركي العظيم.

مشروع الاعتراف هذا لم يرُقَ ـ على ما يبدوـ لساركوزي الذي ربما رأى فيه رافعةً للطلب التركي بالإنضمام لعضوية الإتحاد الأوربي ، لذا اختار ساركوزي أرمينيا ليعلن من عاصمتها يارفان أنَّ المجازر التي ارتكبها الأتراك بحق الأرمن بين عامي 1915 و 1916 ـ و التي راح ضحيتها مئات آلاف منهم ـ ما تزال ماثلة في أذهان السادة الأوروبيون و هي تفرض على تركيا أنّ تقدم اعترافاً تاريخياً بارتكابها لجرائم الإبادة الجماعية بحق الأرمن ، و بحسب ساركوزي هذا " الاعتراف بالإبادة سيكون كافياً " و إلا فإنَّ " فرنسا ستمضي قُدماً " باستصدار قانون يدين كل من ينكر وقوع جرائم إبادة جماعية بحق الأرمن " فالتنكر للتاريخ لم يعد مقبولاً ... وعلى تركيا إعادة النظر في تاريخها على غرار ما فعلته بلدان كبرى في العالم كألمانيا وفرنسا ".

 من حيث المبدأ الاعتراف بالإبادة التركية للأرمن و تقديم اعتذار رسمي عنها هو أقل ما يمكن أن تقوم به تركيا تجاه أحفاد القتلى ، و لكن أن يصدر هذا الطلب من ساركوزي وعلى أعتاب حملة الانتخابات الرئاسية الفرنسية يُعد إهانة ما بعدها إهانة موجهة للقاتل التركي و للضحية الأرمني على السواء ، فالدم الليبي لم يجف بعد فوق يدي ساركوزي ( أكثر من خمسين ألف مواطن ليبي قُتلوا بغارات الأطلسي) و المتاجرة بالدم الأرميني و "بالبعبع" التركي كانت السمة البارزة لحملات ساركوزي الإنتخابية ، ففي عام 2007 ـ و بهدف كسب أصوات نصف مليون ناخب فرنسي من أصول أرمنية ـ وعد ساركوزي ممثلي الفرنسيين من أصول أرمنية أنَّه في حال فوزه بالإنتخابات فسيطرح للتصويت في البرلمان الفرنسي قانوناً يدين كل إنكار لجريمة الإبادة التي ارتكبها الأتراك بحق الأرمن ، بالتوازي، و رغبةً منه في كسب تأييد الناخب اليميني المتطرف و تحديداً المنتمين للجبهة الشعبية ، أعلن ساركوزي أنَّ تركيا ليست دولةً مُرحب بها في الإتحاد الأوروبي لعدم وجود أي قاسم مشترك بينها و بين الأوروبيين سواء على صعيد التاريخ أو الثقافة و ذلك في إشارة واضحة للفارق بين أوروبا المسيحية و تركيا المسلمة ، بالنتيجة  وصل ساركوزي للإليزيه بدعم ٍ مهم ٍمن الناخب الأرمني و قسم ٍمن ناخبي اليمين المتطرف ،ولكن القانون الذي منّى الناخب الأرمني نفسه به لم يرَ النور قط ليس فقط بسبب معارضة مجلس الشيوخ له و إنما أيضا بسبب عدم تأييد حكومة ساركوزي لهكذا قانون و تخليها عن الدفاع عنه في ايار الماضي لكي تضمن مساندة تركيا للناتو في الحرب على ليبيا .


اليوم و على مقربة من انتخابات 2012 الرئاسية يعود ساركوزي ليلعب لعبة الدم الأرمني و "البعبع" التركي و ليعلن من العاصمة الأرمينية سخطه على الأتراك (الذين اعتاد خدهم على لطماته على ما يبدو ) و ليطلق مجدداً وعده للناخب الأرمني بتمرير قانون يجرم إنكار الإبادة التركية للأرمن. السخط الفرنسي على الأتراك ترافق مع وثيقة نشرتها المفوضية الأوروبية تعلن فيها أنَّ تركيا مازالت ـ و بعد مضي أكثر من عشرين عاماًـ غير مؤهلة للإنضمام إلى الاتحاد الأوروبي ، وتطالب الوثيقة تركيا بتعزيز الحقوق الأساسية للمواطن في معظمالمجالات موجهةً انتقادات لاذعة لتركيا بسبب القصور الحاصل في مؤسسة العدالة و حماية حرية الصحافة ومكافحة الفساد و لعدمكفاية الجهود التركية المبذولة لصياغة  دستور جديد يساعد على دفع عملية الإصلاح في تركيا، إضافةً لذلك انتقدت الوثيقة استخدام البوليس التركي للقوة المفرطة بالتعاطي مع الموقوفين.

يُستشف من هذه الوثيقة  أنَّ الأوروبيين ساخطين على أداء المؤسسات السيادية للدولة التركية و آلية عمل
سلطاتها التشريعية و التنفيذية و القضائية ، هذا الأداء في حال استمراره ربما سيؤخر قرناً كاملاً عملية انضمام تركيا للإتحاد الأوروبي والتي تستلزم التفاوض على 35 ملفاً تمّ إغلاق ملف واحد منها بعد عقد من في حينجمدت بقية الملفات بسبب تردد باريس وبرلين في منح تركيا وضع عضو كامل العضوية .

بالرغم من كل هذا الاستعلاء و الصلف الأوروبي بالتعامل مع شعبٍ عظيم كالشعب التركي ما زالت حكومة حزب العدالة و التنمية تُصر على إراقة ماء وجه شعبها على أعتاب أبواب أوروبا . تركيا التي يرى فيها معظم العالم الإسلامي رمزاً للإسلام المدني و نموذجا للنهوض الاقتصادي لا يرَ فيها حكام أوروبا إلا ورقة انتخابية كلما مرَّغوا فيها الأرض كلما ازدادت حظوظهم الانتخابية ،أو يتعاملون معها على أنها مجرد أداة رخيصة تُستَعمل للإنتقام من أعداء إسرائيل دون أن يتجرؤوا على توجيه مجرد نقد لزعماء إسرائيل إذا هم استباحوا دم الأتراك المسلمين فالغرب أضحى لا يرى في حكومة أردوغان إلا شريكاً للناتو في قتل خمسين ألف مسلم في ليبيا و يأمل بمساعدة تركية هامة تُمكن الناتو من سفك دماء السوريين كعربون ولاء آخر ربما يعزز من فرص تركيا في الإنضمام للإتحاد الأوروبي.

الموقف الأوروبي من تركيا يطرح السؤال التالي:
 هل كان غضبُ أردوغان أمام بيرس في مؤتمر دافوس 2009 تمثيلية لاستمالة قلوب العرب تجاه تركيا ليتسنى له ترويج الحلول الأوروـ أمريكية لقضاياهم ، أم أنَّ الدونية بالتعاطي الأوروبي مع تركيا هو الثمن الذي يتوجب على هذا البلد أن يدفعه لتجرئه على الإسرائيليين بوصفهم السادة الفعليين لقادة أوروبا و أمريكا ؟
د. عصام التكروري
دكتور في القانون العام و باحث في القانون الدولي

أخبار ذات صلة



0 التعليقات for كتب د. عصام تكروري : ساركوزي بين التوليب التركي والدم الارمني

إرسال تعليق

أدخل بريدك واشترك معنا بالنشرة الإخبارية:


.

syria a2z news (c) 2011 All Rights Reserved