الصخرة السورية تقطع طريق أنقرة – الدوحة
الأخبار المحلية, i 11:28 ص
لا تستطيع تركيا أن تجمع بين أمرين معاً: عضويتها في الأطلسي ودور بارز في منظومة إقليمية، من البديهي أن تضم دولاً مجاورة لها على الأقل: سورية والعراق وإيران، هذا من غير استبعاد لبنان والأردن انطلاقاً من مبدأين: وحدة الإقليم، وتشابك المصالح.
اعتقد كثيرون أن جنوح تركيا مع حزب العدالة والتنمية لأخذ مواقف متمايزة حيال القضية الفلسطينية هو من باب العودة إلى جذورها الشرقية، بعد إفلاسها في جني منافع توازي دورها الأطلسي الذي بدا في فشلها بعضوية الاتحاد الأوروبي، بينما قبرص الأقل حجماً وشأناً تحقق لها ذلك، ما بدا تظهيراً للمقولة الشهيرة: "الشرق شرق، والغرب غرب، وهما لا يلتقيان".
اعتماداً على هذه القراءة انفتحت دمشق على أنقرة مغلبةً الفوائد السياسية المتوخاة من هذا الانفتاح على الاعتبارات الاقتصادية التي جاءت بمجملها على حساب الاقتصاد السوري.
كانت المقاربة آنذاك أن تكون سورية بوابة تركيا إلى العالم العربي، مقابل انخراط الأخيرة في شراكة إقليمية ذات امتداد جغرافي أوسع تحتاجها دمشق لمعادلة رجحان كفة "إسرائيل"، والناتجة ليس عن دعم أمريكا اللا محدود لها فحسب، بل أيضاً عن حالة الانهيار العربي بعد احتلال العراق، وتحوّل الخليج إلى قاعدة للقوات الأمريكية في الشرق الأوسط.
لكن الذي اتضح فيما بعد أن سياسة أنقرة لم تكن في الواقع تبحث عن فضاء إقليمي وفق منطق الشراكة، بقدر ما كانت تسعى وبمنطق آخر لتلبية شروط عرض أمريكي يحتاج إلى "راعٍ إسلامي" جاذب وقادر على تكتيل محور إقليمي في وجه إيران.
انطلاقاً مما سبق، وبعقلٍ براغماتي بارد أدرك الساسة الأتراك أن العلاقة مع "إسرائيل" تشكل عبئاً معنوياً على تركيا يحول دون احتوائها للشارع العربي، وبدا هذا ملحاً أكثر فأكثر مع تفلت هذا الشارع من قبضة الأنظمة حتى بات رقماً من غير الممكن تجاوزه بعد التطورات التي شهدتها الساحات العربية. من هنا تقفّت تركيا النهج نفسه الذي سلكته الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموماً؛ ظاهره تأييد "الثورات العربية"، وباطنه الإحاطة بها بغية تطويق نتائجها، ثم تسييلها في سياسات تتقاطع مع مصالح الغرب! لكن ـ من باب الاستطراد ـ فإن هذا الأمر ما زال غير محسومٍ بقدر ما هو مفتوح على احتمالات مقلقة للغرب وحليفته "إسرائيل".
لم تقرأ تركيا جيداً إمكانيات النظام السوري تحديداً، قبل أن تنضم إلى جوقة الضغط عليه، حتى بلغت التلويح بالتدخل العسكري. بالتأكيد لم يغب عن الساسة في أنقرة أن الواقع الديموغرافي السوري يشتبك مع مثيله التركي. لكن الذي غاب عنهم هو استحالة قنص النظام من غير أن يؤدي ذلك إلى أضرار تلحق بالنسيج التركي بل والإقليمي!! وهذا زيّن لهم إمكانية وقوع سورية في حضنهم لتصبح ورقتهم المرجحة.
إنها القصة ذاتها "الصراع على سورية" مجدداً للإمساك بالمنطقة. لكن سقوط تلك التوقعات أسقط احتمالات نجاح دور محوري وفق التصورات التركية أي (قيادة المنطقة بتوكيل أمريكي مفتوح). ومع هذه الخيبة لجأت أنقرة إلى رشو واشنطن بالانخراط أكثر في الناتو لتكسب "ورقة الدرع الصاروخي" الذي يشكل بتصورها ورقة ضغط على محيطها الإقليمي يتيح لها هامشاً من المناورة به.
لكن هذا الهروب إلى الأمام وضع تركيا في منطقة الاستهداف المباشر من قبل روسيا، وإيران. وأعاد حساسية تاريخية لدى الدولتين تجاهها. كما إنه ترك آثاراً على مصداقيتها في العالم العربي حيث المستفيد الأول من منظومة الإنذار المبكر هو "إسرائيل"!!.. وعليه فإن مغازلة القاهرة، ومساعي البحث عن فرص في ليبيا ليست أكثر من محاولة للحدّ من الخسائر.
لكن مصر وبعد أن تستعيد عافيتها سوف لن تقبل بدور تركي على حساب دورها ومكانتها في المنطقة. هذه قضية تاريخية تعود لأيام محمد علي باشا الذي أوشك على إسقاط السلطنة العثمانية، ثم ورثها جمال عبد الناصر الذي حجّم الدور التركي إقليمياً عندما أسقط "حلف بغداد".
أحياناً تتشابه مشاهد التاريخ. فكما كان صمود سورية عام 1957 في وجه التهديدات التركية المسمار الأول في نعش "حلف بغداد"، فإن صمود سورية الحالي يشكل ضربة نوعية لـ"حلف بغداد جديد"، فضلاً عن قطع امتداده الإقليمي من أنقرة... إلى الدوحة!!.